على الرغم من تعافي الاقتصاد في أجزاء عديدة من العالم، ما زالت صدمة جائحة كورونا مستمرة في فرض تداعيات جمة على صعيد جانبي العرض والطلب العالميين، وفرضت معها متاعب جديدة أمام الاقتصاد العالمي ولعل أبرزها مؤخراً ارتفاع معدلات التضخم. وليس من المستغرب أن يفرض الارتفاع الاستثنائي لأسعار السلع والخدمات في العالم، نفسه بقوة على أجندة اجتماعات المؤسسات الاقتصادية الدولية كافة، وبما في ذلك اجتماعات مجموعة العشرين، وتجمع وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة السبع في صندوق النقد الدولي.
ضغوط تضخمية:
شهد الاقتصاد العالمي في الأشهر الأخيرة ارتفاعاً استثنائياً في معدلات التضخم (أسعار المستهلكين)، مدفوعاً في الأساس بارتفاع أسعار السلع الأساسية، والقيود على جانب العرض العالمي، واختناقات سلاسل التوريد، إلى جانب نمو الطلب العالمي على السلع والخدمات مع إعادة فتح الاقتصادات العالمية بعد الانحسار الجزئي لجائحة كورونا تدريجياً.
ووفقاً لتقرير Guide to the Markets الصادر عن "جي بي مورجان"، ارتفع متوسط معدل التضخم السنوي بالاقتصادات المتقدمة في أغسطس 2021 بنسبة 3.7%، واتضح ذلك بشكل لافت في الولايات المتحدة الأمريكية بمعدل 5.3%، والمملكة المتحدة بـــ 3.2%، ومنطقة اليورو بــــ 3%.
بينما بلغ متوسط التضخم في الاقتصادات الناشئة، مثل الصين وروسيا والهند، ما نسبته 3.3% في أغسطس الماضي، وسجل أدنى نقطة له بين هذه الاقتصادات في الصين بنسبة 0.8%. ومن المتوقع أن يؤدي استمرار ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بالأسواق الناشئة، علاوة على نمو الطلب على السلع المعمرة، خاصة السيارات، إلى تصاعد الضغوط التضخمية في هذه الأسواق في الأشهر المقبلة.
إجراءات المواجهة:
تعافى النمو الاقتصادي سريعاً عقب استئناف النشاط الاقتصادي في معظم دول العالم، على نحو صاحبه ارتفاعات متوالية في الأسعار العالمية للسلع والخدمات. وتفسيراً لذلك، فإنه مع تلاشي قيود جائحة كورونا تدريجياً، ارتفعت ثقة المستهلكين بالاقتصادات العالمية وعاود الاستهلاك الخاص انتعاشه مجدداً، فيما عجز المعروض العالمي عن الوفاء بالطلب الجديد الناشئ وسط ارتفاع تكاليف المدخلات للمُصنعين، مما نجم عنه حدوث زيادات كبيرة في أسعار السلع والخدمات العالمية.
وعلاوة على ما سبق، فقد تبنت معظم البنوك المركزية العالمية منذ بداية جائحة كورونا في العام الماضي، سياسة نقدية شديدة التيسير؛ وتعني خفض معدلات الفائدة إلى أدنى مستوياتها، وصاحبها تقديم تسهيلات ائتمانية واسعة للمستهلكين والشركات، ونتج عن ذلك ارتفاع الضغوط التضخمية الناجمة عن زيادة السيولة بالأسواق.
فقد أدت صدمة الجائحة إلى توقف عالمي مفاجئ للنشاط الاقتصادي، متسبباً في تزايد عدم اليقين بشأن التنبؤ بالنمو والتضخم، وواكبه حدوث اضطرابات في الأسواق المالية العالمية، بما في ذلك السوق الأكثر سيولة على الإطلاق؛ وهو سوق الخزانة الأمريكية. وأثارت تلك الظروف مخاوف من أن الأدوات التقليدية للبنوك المركزية لن تعمل بفعالية في التعامل مع التحديات الاقتصادية الجديدة المرتبطة بأزمة كورونا.
واستجابة لذلك، تبنت البنوك المركزية مجموعة من الأدوات، في إطار استراتيجية متعددة الأبعاد، لمواجهة المتغيرات الاقتصادية الطارئة؛ ويأتي في مقدمتها تخفيض أسعار الفائدة لتخفيف الضغوط في الأسواق، فضلاً عن دعم الطلب الكلي ومساعدة الاقتصادات على الانتعاش، إلى جانب شراء الأصول لمعالجة الاختلال الوظيفي في الأسواق المالية الرئيسة، ولتوفير دعم إضافي للطلب الكلي.
كذلك تبنت البنوك المركزية برامج واسعة لتوفير السيولة ودعم الائتمان لفئات الشركات كافة، بما في ذلك الشركات المالية، وشراء الأوراق المالية لها، والإقراض المباشر للشركات غير المالية، وبرامج التمويل المختلفة؛ وبهدف ضمان قدرة الشركات على زيادة الإنتاج ودعم التوظيف، بمجرد انحسار أزمة كورونا.
أيضاً، عدلت البنوك المركزية في العالم القواعد التنظيمية الحاكمة للبنوك (مثل التخفيضات في احتياطي رأس المال المعاكس للتقلبات الدورية، والتخفيضات الأخرى في متطلبات السيولة ورأس المال الوقائي)؛ وذلك بهدف تعزيز الائتمان والسيولة في الأسواق.
تحرك عكسي:
كما ذكرنا آنفاً، ساهمت إعادة فتح الاقتصاد العالمي تدريجياً مع انتعاش أسعار النفط وتعافي الطلب العالم، في تسارع معدلات التضخم. وهنا، تنتظر الأوساط الاقتصادية كيفية استجابة السياسات النقدية للتعامل مع تلك التحديات الناشئة، ودعم الانتعاش العالمي في الوقت ذاته. ويمكن القول إن الأدوات النقدية للبنوك المركزية يمكن أن تضطلع بدور جوهري في التصدي الاستباقي لأزمة التضخم العالمي، وعلى نحو يعزز الحفاظ على ثقة المستثمرين والمستهلكين.
وفي هذا الصدد، بدأت العديد من البنوك المركزية مؤخراً في سحب التحفيز الطارئ الذي قدمته لمواجهة تداعيات الجائحة في العام الماضي. فعلى ضوء تسارع التضخم، يخطط الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لإبطاء برنامجه لشراء الأصول (معظمها أورق دين حكومية)، في حين أن أقرانه في النرويج والبرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا من بين أولئك الذين رفعوا بالفعل أسعار الفائدة. ويبدو أن تلك التحركات الجديدة من البنوك المركزية العالمية ستُقلي بظلالها على الأسواق المالية العالمية، حيث سيضطر المستثمرون لإعادة النظر في عوائد استثماراتهم بالأسهم في البورصات، بالإضافة إلى تسعير المخاطر المتعلقة بها.
بينما تمسك البنك المركزي الأوروبي بسياسة التيسير النقدي حتى الربع الأول من عام 2022، بالرغم من أن معدل التضخم يتحرك في نطاق تجاوز 3% في الربع الثالث من العام الجاري، وهو أعلى من المستوى المستهدف بنسبة 2%؛ وهذا ما يمكن تفسيره بأن البنك يستهدف عبر استراتيجية واسعة معالجة القضايا الأوسع للاستقرار المالي، والنمو الاقتصادي المتوازن، والأسواق التنافسية، والتوظيف وغيرها. فضلاً عن ذلك، فإن مسؤولي البنك المركزي الأوروبي يرون أن التضخم مشكلة مؤقتة، وفي طريقها للتلاشي في الأجل القريب.
حسابات النمو:
يواجه صانعو السياسات في العالم تحدياً أساسياً يرتبط بالمفاضلة بين مواصلة دعم التعافي الاقتصادي، والاستعداد للاستجابة السريعة لتحركات الأسعار الأخيرة؛ وهو ما يتطلب من السلطات النقدية توخي الحذر والمتابعة المستمرة لتطورات الأسواق، من أجل التعامل مع المستجدات الخاصة بمخاطر التضخم غير المتوقعة، وهو ما يدعو إليه صندوق النقد الدولي في أحدث تقرير لآفاق الاقتصاد العالمي.
وهنا، حتى لو كان التضخم العالمي المرتفع مؤقتاً، فقد يُعقد خيارات السياسات أمام دول الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية على المدى القريب، حيث لا يزال بعضها يعتمد على سياسة "التيسير النقدي" لضمان التعافي الاقتصادي الدائم. فبالنسبة للدول التي تطبق سياسة استهداف التضخم وتعاني من ركود اقتصادي كبير وتضخم أقل من المستهدف، يمكن أن يساعد استمرار "التيسير النقدي" والدعم المالي في تعزيز الانتعاش الاقتصادي.
وعلى جانب آخر، من المرجح أن تتفاقم التقلبات الحادة التي تعانيها بعض الأسواق المالية في الاقتصادات الناشئة والنامية مع اتجاه السلطات لتشديد السياسة النقدية، ورفع أسعار الفائدة. وفي الأصل، تعاني بورصات الدول النامية من ضعف السيولة؛ بسبب أساسيات الاقتصاد الضعيفة مثل ارتفاع ديونها القياسية، وتعافيها الاقتصادي المتأخر من جائحة كورونا، فضلاً عن الانخفاضات الحادة في سعر الصرف، وتدفقات رأس المال الخارجة. ولذا، ينبغي أن تحتاط السلطات النقدية قبل اتخاذ أي إجراءات نقدية عكسية، وضرورة التمييز بين تغيرات الأسعار النسبية المؤقتة والزيادات في المستوى العام للأسعار، وإيجاد قناة تواصل جيدة لإيصال ذلك إلى المجتمع من أجل الحفاظ على توقعات التضخم ثابتة بشكل جيد.
أما بالنسبة للدول ذات التعافي الاقتصادي السريع، فقد يكون من السابق لأوانه سحب الدعم النقدي والمالي، ولذا سيتعين عليها اتخاذ أهبة الاستعداد والجاهزية لاحتمالية تحقق مخاطر التضخم في المستقبل، خاصة تلك المتعلقة بالتحركات الحادة في أسواق العملات الأجنبية. ويمكن لتلك الاقتصادات الشروع في تكوين رصيد كاف من احتياطيات النقد الأجنبي، وزيادة متابعة ومراقبة مخاطر العملات الأجنبية، وتعزيز السياسات الاحترازية الكلية تحسباً لتدفقات رأس المال المحتملة إلى الخارج بمجرد أن تبدأ الاقتصادات المتقدمة في سحب "السياسات التيسيرية".
آفاق التضخم:
هناك مؤشرات على أن مخاوف التضخم لن تتلاشى في العام الجاري وسط استمرار ضغوط سلسلة التوريد، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، والطلب القوي بعد الإغلاق، واستمرار برامج التحفيز، ونقص العمالة. وفي ضوء المعطيات السابقة، من المرجح أن يتجاوز معدل التضخم أهداف البنوك المركزية، ما دفع الأوساط الاقتصادية للتحذير من احتمالية معاناة الاقتصاد العالمي من ظاهرة "الركود التضخمي" في الأشهر المقبلة.
وعن آفاق التضخم في الأجل القصير، تشير التوقعات الأساسية لخبراء صندوق النقد الدولي في تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر في أكتوبر الماضي، إلى أنه بالنسبة لمجموعة الاقتصادات المتقدمة، من المتوقع أن يبلغ متوسط التضخم في عام 2021 نسبة 2.8%، قبل أن ينخفض إلى 2.3% في عام 2022. وبالمثل، تُظهر آفاق الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية تراجع التضخم إلى 4.9% في العام المقبل، مقابل 5.5% في العام الجاري.
ختاماً، وكما يتبين من الاستعراض السابق، من المرجح أن ينخفض معدل التضخم العالمي بحلول العام المقبل، مدفوعاً بعوامل مختلفة في صدارتها تخلي الاقتصادات المتقدمة عن برامج التحفيز، والتراجع النسبي لمشاكل سلاسل التوريد. وبالرغم من ذلك، تظل عودة معدل التضخم لمستويات ما قبل جائحة كورونا مرتبطاً بانحسار تداعيات هذه الجائحة على الاقتصاد العالمي.